رحلة المانيا

في البداية احب ان اتوجه بالشكر لزميلي العزيز في مجال التدوين "منير اشميلة" صاحب مدونة Monirly، الذي لولا مبادرته لاعادة تنشيط التدوين في ليبيا بالفكرة التي كتبها بعنوان “مبادرة لتنشيط التدوين في ليبيا”، وكان نصيبي ان اكون اول المساهمين في هذا المبادرة بطلب من اخوي منير “دفان مراكب”، فقد طلب مني منير ان اتكلم عن اخر رحلة لي، صراحةُ لست كثير الترحال أوكثير السفر، لكن اعتقد ان اخر رحلة لي خارج البلاد تستحق التدوين.

كانت رحلتي الاخيرة في الاسبوع الثاني من رمضان سنة 2013، الى الدولة الألمانية بالتحديد مدينة كرونبيرج، لغرض حضور دورة تدريبية في مجال العمل (تقنية المعلومات) في مقر الشركة، سبق هذه الدورة الكثير من المراسلات بيننا وبين الشركة والتعهدات المالية وما الى ذلك، تلك الاجراءات التي يمر بها كل مواطن ليبي ساعيا وراء الحصول على تأشيرة الاتحاد الاوروبي.

هل يستحق الموضوع الذكر؟ لا اعتقد سأجتاز مرحلة الاعداد للرحلة، وسأكتفي بذكر نتيجة صعوبة اجراءات الحصول على التأشيرة في تلك الفترة عبر السفارة الالمانية في طرابلس فضلت السفر بدعوة من فرع الشركة في سويسرا، وهذا سبب لي عائق اضافي، فحسب نصيحة الاغلبية من ذوي خبرة السفر الى اوروبا، انه يجب علي الدخول الى الاتحاد الاوروبي عن طريق الدولة الصادر عنها الـتأشيرة.

وهذا ما كان فعلا، تم حجز تذاكر السفر على الخطوط التونسية، ذهابا وعودة بحيث يكون خط السفر طرابلس- تونس، تونس-جينيف، ثم منطقة ضبابية لم يتم التخطيط لها بالذهاب الى فرانكفورت، ومن فرانكفورت الى كرونبيرج، ومن ثم العودة من مطار فرانكفورت الى تونس، ومن تونس الى طرابلس من جديد.

وفي يوم السفر الى تونس توكلت على الباري، واتجهت بصحبة والدي الى المطار (المرحوم) ولا تنسوا الاجواء رمضانية، حتى حان موعد الطائرة، ما ان اقلعت حتى هبطت ساعة زمن وكنا في مطار قرطاج، رحلة قصيرة خفيفة تعمها السعادة استنادا على مغادرتك الأجواء الليبية، كان المخطط البقاء في تونس العاصمة اقل عدد من الساعات فمع الفجر سأشد الرحال الى الاراضي السويسرية عابر البحر المتوسط بسحبه البيضاء، وهذا ما كان اقامة سريعة في فندق الهناء على حساب الخطوط الجوية التونسية في قلب العاصمة التونسية بشارع الحبيب بورقيبة، هذه اول زيارة لشارع الحبيب من عدة سنوات، وكم اصبت بخيبة امل بملاحظة كم تأثر هذا الشارع الحيوي بعد ثورة الياسمين، اختفاء الاكشاك، اختفاء الاشجار، وانتشار للمدرعات والاسلاك الشائكة، و اختفاء الكثير من المحلات على ضفتي الشارع وتحولهم الى مقاهي.

كانت اقامة سريعة بسيطة تخللها الكثير من “افرح بيا عيش خوي”، والكثير من “ع السلامة” و”يعيشك”، لن اتكلم اكثر على تونس فاغلب الليبين يعرفونها افضل مني بكثير، فانا من الليبين القلة الذين لم تتجاوز عدد مرات زيارتهم لتونس العشر مرات.

حاملا حقيبة الكتف بها حاسوبي وجارًا خلفي حقيبة السفر بها ملابسي، شددت الرحال فجرًا من جديد الى مطار قرطاج، مع كل اجراءات التفتيش، و”شن حابب تعمل في سويسرا” من رجال الجوازات، صعدنا الطائرة ومنها الى بلاد الصليب الابيض والعلم الاحمر القاني سويسرا.

هذه هي زيارتي الثانية الى سويسرا ولكن الفاصل الزمني بينهما طويل يفوق العشرين عام، عند وصولي الى شباك ختم الدخول مررت بلحظة الرعب تلك التي يقابلها كل ليبي عند الوقوف على اي جهة امنية، خصوصا مع مظهر الضابط المسؤول وهو يقلب جواز سفري الليبي ذات اليمين و ذات الشمال وكأنه “سفنزة” بحثا عن اي شيء مريب ومحاولة لفهم هذه الوثيقة الغريبة المكتوبة بخط اليد والتي تحتوي على ختم كبير بالعربي ينص “ان هذا الجواز صالح للسفر لكل دول العالم الا فلسطين المحتلة”،حاولت ان اساعد الضابط معتقدًا انه قد يكون يبحث عن بياناتي بالانجليزية في نهاية جواز السفر لكن اشارة صارمة منه اسكتتني، صراحة لم يسألني اي سؤال او ناقشني في اي نقطة منذ لحظة وقوفي، بعد اقل من دقيقتين قام بختم جوازي مُمَرِّرُه لي من تحت الزجاج قائلا جملة وحيده “Welcome” ، شعرت في تلك اللحظة بشعور الليبي في التسعينيات الخارج من الجمعية الاستهلاكية بنصيبة من علب التونة، شعور النصر والفخر بتحقيق انجاز تاريخي في ظل عصر الفضائات والتكتلات.

كانت مهمتي من اللحظة الأولي واضحة، الاتجاه فورا الى اقرب مكتب خطوط طيران لحجز باقي رحلتي الى فرانكفورت، وهذا ما كان، الى اقرب مكتب طيران والذي كان مكتب يضم لوفتهانزا الألمانية وسويس اير السويسرية، تمّ الحجز الرحلة بحيث اذهب الى زيورخ ومنها الى فرانكفورت، ما لفت نظري في مطار جنيف هو وجود جزء فرنسي للمطار، وبعد الاطلاع في الانترنت حول هذا الموضوع، اكتشفت ان المطار قد تم بناءه على الحدود الفرنسية السويسرية، وهناك جزء منه داخل الأراضي السويسرية وجزء اخر في الاراضي الفرنسية، لا يفصل بينهما من داخل المبنى الا 10 خطوات صعودا على درج.

استأنفت الرحلة الى زيورخ ومنها الى فرانكفورت، ذاك اليوم الذي كانت بدايته في الاراضي التونسية، وصلت الى مطار فارنكفورت الذي لم ارى اضخم منه الا مطار دبي، كم الطائرات جعله اقرب لخلية النحل وشبكة قطارات محيطة به تظهر من السماء وكانها شبكة عنكبوت؛ لم اكن اعلم الا اسم المنطقة التي اريد الذهاب اليها “كرونبيرج” ، لم اعلم بُعدها عن فرانكفورت، ولم اعلم حجمها او طبيعتها.

بعد ان استلمت حقيبتي اتجهت صوب اول باب خروج من المطار وهنا تقابلت لاول مرة مع وجه المانيا الاخر، مَسكني شخص من ذراعي اليسرى، شخص قصير ممتلئ قليلا اصلع بالكامل “قرعة” يرتدي ملابس عصرية بنطلون بني اللون قماشي، وجاكيت ذات لون “كاكي او بطاطي” سائلا اياي بلهجة غريبة لكن بلفظ يستحيل ان تخطئ فيه، سؤالين الاول منهما Taxi ؟ اجابتي كانت باحدى الكلمات القليلة التي اعرفها بالالمانية “Ja” بمعنى نعم، ثم اتاني السؤال التالي “Muslim”؟ وكانت اجابتي مثل سابقتها “Ja” وكلي استغراب لماذا السؤال عن ديني؟ هل المانيا تحولت الى معادات الاسلام ام ماذا؟ اتضح بعد دقيقة فقط عندما وصلنا للسيارة بان السائق الماني مسلم من اصول تركية، وقد تعرف عليّ من الشكل فقط شاكًا بأني عربي او تركي؟ فأحب ان يقدم خدماته ويكون له من المال نصيب.

اتضح فيما بعد ان منطقة كرونبيرج قرية صغيرة شمال فرانكفورت تأتي على منحدر جبلي لا هي في قمة الجبل ولا اسفل منه، منطقة نصف جبلية خضراء بالكامل مزروع في ضواحيها مساحات ضخمة من الذرة، مستغلين كل المساحات حتى على شريط ضيق من الارض بين طريق رئيسي وآخر للخدمات.

احدى طرق المنطقة
 بهذه القرية مجموعة من البحيرات اشهرها بحيرة فيكتوريا على اسم الملكة الانجليزية، التي كانت لها صلة بالمنطقة، وبها قلعة قديمة جدا من زمن حكم الاقطاعيين لاوروبا، تحولت الان الى مزار سياحي، وملاصقة لجامعة كرونبيرج، كان وصولي للفندق عند الساعة السادسة مساء تقريبا عطشا صائما مرهقا من طول الرحلة، بجهد وتعب حملتني قدماي الى مكتب استقبال الفندق ضيق صغير لكنه ذو اضائة جيدة وديكور يجعله حميميا وكأنك في منزل لا في فندق، رجل الماني اربعيني العمر يجيد الانجليزية بطلاقة بشوش كان في الاستقبال، أكملت الاجراءات والان الى المفاجئة هل الغرفة بالشكل الذي رايته على موقع الفندق على الانترنت ام هي الصدمة و خيبة الامل؟

احدى البحيرات المحيطة بالمنطقة
احدى البحيرات المحيطة بالمنطقة
دلني على مكان الغرفة بطريقة اركب المصعد الى الدور الثاني يسارا نهاية الممر الباب على اليسار، اتبعت التعليمات فتحت الغرفة وكانت المفاجئة غرفة كاملة متكاملة اقرب الى المنزل، لو كنت احلم بمنزل لفرد واحد ما تمنيت غرفة افضل من هذه، خشبية البناء و الارضية هادئة بدون صرير، بمكتب واسع وعريض، اطلالة اكثر من رائعة على قلب القرية من نوافذ الغرفة الكبيرة ستائر ثقيلة تحجب الشمس صباحا وتوفر الدفئ ليلا، سريران وثيران، صالون صغير من كرسي “كنبه” لثلاث اشخاص وطاولة زجاجية وكرسيين فرديين مريحين، من خلفهما حائط به لوحة فنية من النوع السريالي او التكعيبي او احدى تلك الفنون التي لا افهمها لكنها بالوان هادئة مريحة للنفس، على يسار الجلسة شاشة تلفاز عريضة جميلة مشكلتها الوحيده لا تبث الا اربعين قناة ناطقه بالالمانية لو استثنينا قناة اليورونيوز الناطقة بالانجليزية، حمّام صغير نظيف جدا، ومطبخ صغير جدا لكنه عملي به حوض لغسيل الصحون وادوات طبخ كاملة، وسخان كهربائي "فرنيلّو"، ومايكروويف، وثلاجة،  وبالطبع تغطية لاسلكية للانترنت.

ما لفت انتباهي في الغرفة هو الحمام، وجدت على حوض غسل اليدين ملصق مرسوم عليه ورقة شجر ويغلب على الملصق اللون الاخضر، وكأنه اعلان لحزب الخضر، وفعلا لم يخب توقعي فلم ابتعد كثيرا عن الحقيقة، فهو ملصق يحثّك على المحافظة على البيئة وذلك في استخدامك للمناشف، فهم يوفرون كمية كبيرة من المناشف ويطلبون منك في صباح كل يوم ان توفر عليهم الجهد بأن تضع المناشف التي تم استخدامها اما في حوض غسل اليدين او تلقيها في حوض الاستحمام لمعرفة ايها التي تم استخدامها وعدم اعادة غسل النظيف منها، فكرة جميلة للتوفير منهم والحفاظ على البيئة، في بلد لم ينقصه الماء يوما ولكن هو الاحسان وحسن التدبير وفهم الامور.

احدى المناظر التي تطل عليها غرفتي
منذ لحظة وصولي كان من اهم الاشياء الموضوعه على جدول اعمالي هو معرفة محيط مقر اقامتي وتحديد طريقة افطاري اليومية وكيفية التنقل بطرق المواصلات المختلفة، كان يوم صيامي يبدأ الساعة 2:30 ليلا او بمصطلح ادق فجرا لديهم، وأذان المغرب عند 9:30 ليلا، يوم طويل صراحة، تتخله يوميا محاضرات من الساعة 9 صباحًا حتى 5 مساءً، خرجت راجلًا باحثا في محيط اقامتي عن حاجتي، اسفل الفندق يوجد مقهى يقدم القهوة وشبيهاتها، امام الفندق بمسافة 100 متر تقريبا يوجد سوق “سوبرماركت” كبير نوعا ما، وعلى مسافة 500 متر تقريبا توجد بحيرة ملخق بها حديقة ضخمة وملعب قولف تستحق الزيارة، وعلى نفس المسافة تقريبا في الاتجاه المعاكس توجد قلعة المدينة.

من حديقة البحيرة
حاولت ان استفسر عن وجود مطاعم تركية او باكستانية في المنطقة لعلي اتحصل على بعض الوجبات الحلال، لكن اتضح ان على عكس فرانكفورت غالبية سكان المنطقة هم من الالمان “منطقة قحوص اتاريها”، فاكتفيت بمحتوى السوق لتكوين افطار يومي لي، وانطلاقا من اليوم التالي بدأت مهمتي الرسمية وهي محاضرات الدورة.

من حديقة البحيرة
مكان اقامة الدورة كان في مجمع شركات ضخم نسبيا ينقسم الى ثلاث اجنحة، كل جناح من اربعة طوابق، جزء لشركة EMC الامريكية و التي جئت من اجلها، و جزء اخر لشركة SAMSUNG الكورية الجنوبية، اما القسم الثالث فلشركة كورية جنوبية ايضا لكن لم اتعرف على اسمها فهو مكتوب بابجدية كورية  وتعرفت على جنسيتها عن طريق العلم فقط.

مقر الدورة
بالنسبة للمجمع في حد ذاته مبنى يقع جنوب كرونبيرج وشمال فرانكفورت في منتصف المسافة بينهما، مبنى ابيض ضخم نوافذه وابوابه باللون الازرق كشعار EMC و SAMSUNG تحيط به حديقة متنوعة الازهار وما بين المبنى و حديقة الازهار منخفض به جدول مياه صغير غير جاف، و الرابط بين الطريق و مدخل المبنى الرئيسي، ممر اسمنتي معلق اسفل منه يستمر ذلك الجدول في الجريان. 

في اليوم الاول وبعد استلامي لبطاقة حضور الدورة والتأكد من هويتي، دخلت الى الفصل الدراسي الخاص بمحاضراتي، على يسار الباب سبورة من النوع القماشي للعرض باستخدم Data Show وسبورتين مربعتين صغيرتين ورقيتان للكتابة عليهما بقلم الحبر، على يمين الباب 3 صفوف وعمودان من المقاعد الزوجية وصف اخير طويل خماسي المقاعد، وجدت بعض الشباب الجالسين الواصلين قبلي؛ كان الامر غريب لا ادري اين أجلوس هل الاسبقية لمن حضر الاول هل الاسبقية للطول ام لتاريخ التسجيل لم ادري صراحة، ارتجلت وسألت احد الحاضرين عن مكان من الاماكن اذا كان شاغرًا فرد بطريقة باردة ان لا احد يجلس هناك، عرفت فيما بعد انه الشخص النمساوي.

قاعة المحاضرات
جلست وانتظرنا جميعُا حضور باقي الطلبة والمحاضر، ولله الحمد لم اكن ذو سمعة سيئة في مواعيد الوصول، حاولت قدر الامكان الاستيقاظ قبل موعد المحاضرات بساعتين اعد فيها نفسي واتكل على الله، اكتمل الحضور وختمهم المحاضر بالقدوم، جلس في تلك الاثناء شخص بجانبي ذو ملامح عربية، قدرت انه لن يبتعد عن كونه تركي، او من بلاد الشام لكن ارجح كونه فلسطيني أو مصري، “خدمت الرزين” وقلت سنتعرف على بعضنا، وهذا ما كان كعادة كل الدورات تبدأ بتعريف المحاضر بنفسه ثم وعلى طريقة المدفع الرشاش في اطلاق المعلومات كل شخص يعرف بنفسه بطريقة سريعة.

قاعة المحاضرات الدانب الزجاجي منها
وشاءت الاقدار ان يكون دوره في التعريف بنفسه قبلي، لم اعد اتذكر اسمه ولكني لن انسي الجنسية فقد كان اسرائيلي!!، اهلا وسهلا حلت الافراح واشرقت الانوار، بداية القصيدة كفر، هذا ما كان يدور في رأسي كيف سيكون تعامله معي، بالنسبة لي انا قادم للدراسة والتعلم، لم أتي لغرض الحرب او النقاشات الفلسفية الطويلة او توجيه الاتهامات، هذه فلسفتي التعليم اولا واخيرا، خصوصا ان المحاضر قد قسمنا مجموعات اثنين اثنين للتعاون في المعمل مع بعضنا.

كانت جنسيات الحضور كالتالي: المحاضر الماني، الطلبة شخص روسي، ثلاث اشخاص من سلوفينيا، شخص هندي يعمل في عُمان، شخص نمساوي، واحد جنوب افريقي، واخر صربي، مثله انجليزي وهو اكبرنا سنا ويعمل في لندن، الاسرائيلي و ختامها انا الليبي.

في فترة استراحة الغذاء بقيت في محلي جالسا اتصفح الانترنت، واجيب على بعض رسائل العمل، قررت حينها ان اتى الاسرائيلي سأحاول فتح معه اي موضوع نقاش، و أرى ما سيحدث.
اتى وبدأت الحوار بجملة “قد اجلسنا الحظ بجوار بعضنا!!”
نظرة استغراب منه وسؤاله “لماذا؟”
فاجبت “اسرائيلي بجانب عربي ويجمعنا الشرق الاوسط مع بعض”
ابتسم بشكل خفيف وقال “من اين انت؟”
اجبت “من ليبيا”
سأل من فوره “وكيف ليبيا الان بعد الحرب؟”
كان ردي اقرب لتصريحت زيدان بسوف وسنعمل وسنقوم “البلاد بخير ونسعى لتكوين حكومة قوية وسنقوم بالاستفتاء على الدستور قريبا!!”
اجاب بعبارة مقتضبة “جيد”
كانت هذه اخر عبارة تحدثنا فيها مع بعض في اليوم، جاء صباح اليوم التالي وقلت ابدأ الحوار من جديد تنازلا مني قلت له “بكرتوف”، هش وبش ورد بمثلها وصمتنا صمت سطح القمر.

تكونت في ذهني فكرة انه لا بقاء معه ولن اكمل معه الدورة، خصوصا انه لا يريد حضور الجزء العملي من الدورة، رأيت الشخص الروسي جالسا في المقدمة لوحده، قررت انه من الاسلم لي الانضمام “لحلف وارسو”، كارث عربي اصيل واحياء لذكرة المعسكر الشرقي وفترة المواجهه مع العدو الصهيوني(امزح طبعا).

كانت الدورة طويلة الساعات قصيرة الايام بالنظام الحديث المتبع حشو راس المتلقي بالمعلومات، فان لم يقرأ ويراجع فلا يلوم الا نفسه، اتعبني المحاضر الالماني بلهجته الغريبة، صحيح انه يتقن اللغة الانجليزية لكن تغلب عليه طريقة النطق الالمانية، فتقريبا كل حرف “S” يقلب الى حرف “Z” فأصبحت كلمة مثل “sysAdmin” تنطق بهذا الشكل “ZuzAdmin” ايضا اصبحت كلمة مثل “sbin” تنطق بهذا الشكل “Azbain”.

من الحوارات الممتعة التي دارت بيننا لاكثر من مرة، هو عدم ذهابي لتناول وجبة الغذاء معهم، سالني مرة الاسرائلي واجبته بانه رمضان فقال لي انه صحيح وسالني هل هذا الشهر الذي ينتهي بعيد “الفكر”، ليس خطأ املائي او خطأ في الطباعة لكنه هكذا نطقها فاجبت نعم، ايضا المحاضر سألني و قد اجابته بنفس الاجابة كذلك كان رد فعل بان ضرب يده برأسه انه كيف نسى انني مسلم، واهتم بالموضوع جدا حتى انه طلب مني اكثر من مرة ان اطلب من عاملي المطعم ان يجمعوا لي جزء من الغذاء في صحن واكله في حينما يحين موعد الافكار لدينا.

من اطول تلك المحادثات كانت مع النمساوي الذي لم يستطع ان يتخيل سبب امتناعي عن الاكل والشرب، فبدأ يسأل هل اذا افطرت توضع في السجن؟، هل الصيام مفروض على الجميع حتى المريض والطفل والكبير العاجز؟، الغريب انه طلب مني ان يرى التقويم القمري!!، واندمج في هذا الحوار الهندي الذي طلب مني ان اقول له كم ساعة اصوم فيها يوميا؟، صراحة اشهد انهم كثيري السؤال لكن بمنتهى الاحترام لا احراج ولا احكام مسبقة، اتكلم هنا على المجموعة التي قابلتها فقط لا على مجتمعات باكملها.

تمثال للسيد كرونبيرج الذي اطلق اسم عائلته على المدينة
في اليوم الاول في الفندق نبهني عامل الاستقبال وهو على فكرة مالك الفندق، بانه اليوم هو اخر يوم عمل له هنا فسوف يأخذ اجازة طويلة هو وعائلته، ومن الغد سوف يأتي والداه للعمل في مكانه، واصبحت هذه عقبة جديدة فوالداه طاعنان في السن، لا يفقهان في الانجليزية الا بمدى فهمي للالمانية، ولكن اشهد انهما ذكيان ابوه شخص بشوش جدا قصير القامة بشكل كبير لا تغادر الابتسامة محيّاه، كلما قابلني ابتسم ابتسامة عريضة يحييني بالالمانية وارد عليه بالعربية؟ فلن يفهم احدنا ما يقول الاخر، اما والدته فهي امرأة في بداية العقد السابع من عمرها، هي القائمة فعلا بالاعمال تعاملت يوميا معها، وكنا نتفاهم بطريقة ان اللبيب بالاشارة يفهم.

من اكبر المشاكل في المجتمع الالماني ان الاجيال الكبيرة في السن لا تتقن الانجليزية الا فيما ندر، واغلب اليفط في الشوارع لا تحمل اي عبارة انجليزية، ولغتهم للامانه ليست سهلة ابدا فاحيانا كلمة واحدة تتكون من اكثر من خمسة عشر حرفا فيصعب على غير المتعود على هذه اللغة نطقها، وكانت هذه النقطة محور نقاشي انا والروسي مع المحاضر “Olaf” ، وقد اجابنا بوجهة نظر من نقطتين مقبولتان جدا، اولهما انكما مقيمان في ريف فرانكفورت فلن تجد من يتحدث الانجليزية الا بصعوبة، اما النقطة الاهم فقد اجاب لماذا اتعلم الانجليزية، انا الماني بإعلامي وصحافتي وكتبي وفنوني ورياضتي واخباري ومدارسي وجامعاتي، العلوم تكتب وتدرّس بلغتي ان لم تتطور ايضا بلغتي، فلماذا اتعلم اي لغة اخرى؟.كانت نصيحته لنا اذا اردت ان تجعل الالماني يتحدث معك بغير لغته حاول ان تبذل مجهودا في تعلم بعض مفرادات لغته واذكرها امامه ثم اعتذر عن عدم امكانيتك الاستمرار نتيجة ضعف لغتك، عند تلك اللحظة سيحاول ان يبذل هو المجهود لتغطية عجزك، وقد جربتها وكانت طريقة ناجحة جدا، واعتقد انها ناجحه مع غير الالمان ايضًا.

فضلت التنقل في المانيا اما على قدمي في المناطق المحيطة بمقر اقامتي، او باستخدام سيارات الاجرة، تفاديت التعامل مع الباصات “للامانه” لصعوبة فهم خرائطها وتقدير سعر التذكرة، حاولنا في احدى المرات انا والروسي والهندي ان نفهم الخريطة، لم نستطع ان نصل الى شيء مفيد حتى اننا استعنّا بالالماني، وصرح لنا بانه نظام معقد جدا لم يستطع هو نفسه فهمه، وانه في كل فترة تقوم احدى الاذاعات المحلية بالنزول للشارع طالبة من الناس بشكل عشوائي ذكر قيمة التذكرة استنادا على الخريطة، وغالبا ما تكون الاجابة بعدم المعرفة، تعقيدها ان التسعيرة تعتمد على المسافة وعدد المحطات والمناطق المقطوعة، وعمر الراكب، فاصبحت وكأنها محاضرة لمادة الجبر، اما القطار فلم استخدمه الا مرة واحده فقط لبعد المسافة بين محل اقامتي والمحطة.

كانت من تجاربي مع سائقي سيارات الاجرة انني تعرفت على شخص عرفني بنفسه بانه مسلم عربي من سوريا يحمل من الاسماء اسم "علاء الدين"، ولكن نتيجة عدم معرفته بكثير من مفردات اللغة العربية، اضطرني ان اسأله من اين من سوريا فقد شككت في الموضوع، فقال انه من خليج الاسكندارونا، تلك المنطقة المتنازع عليها بين تركيا وسوريا منذ عقود، وتبعيتها لتركيا حاليا، فقلت له انك تركي، فاجاب انا احمل الجنسية الالمانية حاليا، لكني عربي تحت الحكم التركي، اعجبني اعتزازه بقوميته واصوله، تحدث معي في الشأن العربي والليبي بشكل عام، للأسف فكرته في السياسة تقتصر على التالي ان رأس الفساد في العالم هم الشيعة، والفرنسيين، اما بالشأن الليبي فالقذافي مجنون وانه شيعي، حاولت بشتى الطرق تغيير هذه الفكرة لديه وقلت له اننا في ليبيا في معظمنا من السنة مالكية، لمعت عيناه علامة الذكاء والنجاح في اثبات شيء فقال “مالكي العراق، نعم انه شيعي”، ضربت كفا بكف وقلت “الامام مالك”، فرد “امام ؟!  شيعي”، الخلاصة ضعف اللغة ورسوخ فكرة معينه في ذهنه قد اتعبتني.

صراحة انطباعي على المانيا انها بلد النظام، بلد متقدم جدا، وتلاحظه في كل شيء من الطريق الى العمارة، خليط جميل من جمال الطبيعة ومجهود الانسان، تناسق رهيب في كل شيء، التطور والبساطة يغطيان كل شيء، هل هم شعب متكبر وعنصري، لا اعتقد بل يمكن القول انهم شعب فخور، تعرّض للكثير من النكسات، ولكنهم فخورين بقدرتهم على النهوض من جديد، ايضا نتيجة كوارث الحرب العالمية الثانية اصبحوا محل اتهام من الجميع فأشهر شيء بعد بايرن ميونخ عن المانيا هو النازية وهتلر، مما جعل الشعب باكلمه في موقف دفاعي وتربص في اي حوار.

من الاشياء التي لم اكن اعلم انها موجوده في العالم اصلا، هو حول البحيرة التي بجانب الفندق توجد غابة من الاشجار متنوعة، الغريب هنا انهم قاموا بترقيم كل الاشجار بوضع قطعه معدنية تحمل رقم الشجرة، حتى المتلاصقة منها يتم تصنيفها بناء على الجذر فاذا كانت من جذر واحد فهي شجره واحده وان تعددت الفروع، اما اذا كانت من اكثر من جذر فهي اكثر من شجرة,


من نصائح والداي -حفظهما الله- كانت ان احمل معي بعض الهدايا الرمزية من ليبيا، من تلك الاشياء التي تبيعها بعض الدكاكين في المدينة القديمة، مجسم صغير للسرايا الحمراء او صورة لجامع أحمد باشا، او مجسم خشبي صغير “لبلغة” نسائية مطرزة، بحيث اقوم باعطائها لمن يهمني امره هناك، وهذا ما كان، فاعطيت واحده للمحاضر في اخر يوم دراسة، ايضا منحت واحده للصديق الجديد “نيكولاس” الروسي الذي لازلت تجمعني به صداقة ليست وطيدة لكنها علاقة احترام متبادل، والهدية الاخيرة وكانت مجسم “البلغة” منحتها لوالدة مالك الفندق، لم اعرف كيف اوصل لها المعلومة بلغة تستطيع ان تفهمها، فلم اجد الحل هنا الا في استخدام التقنية خدمة الترجمة من قووقل كانت الحل الافضل، فكتبت ما اريد قوله باللغة الانجليزية وقام البرنامج بنقله الى الالمانية، واعطيتها اياه في الصباح لتقرأ ما كتبت، فرحت واصبحت ابتسامتها اكبر معالم وجهها، في تلك اللحظات تعلمت الانجليزية وشكرتني كثيرا وفرحت بانها وجدت الهدية المناسبة يمكنها ان تمنحها لابنتها التي على وشك الانجاب، طلبت مني ان انتظر حتى تجلب آلة التصوير واخذت كم صورة للهدية، التي لا اراها تستحق كل هذا، لكن شكرا لوالداي الذين نصحاني بهذا وكانت نصيحة مجدية فعلا في فتح الابواب المغلقة، فمن بعد تلك الهدية اصبحت تريني صور عائلتها، وتتحدث لمدة طويلة معي وتطلب مني ان اجلس واتناول وجبة الافطار معهم، هنيئا لها فقد عرفت كيف تفرح باي شيء بسيط.

ثم جاء موعد الرحيل والعودة من قرية كرونبيرج الى مطار فرانكفورت “بدون اضافة العالمي” فهم اهل عمل لا اهل كلام ومسميات، سأحاول ان اصف اليك ضخامة المبنى عند دخولي للمطار دخلت من بداية المبنى فوجدت النافذة رقم 1 لخدمة الركاب وتحميل الحقائب، وكان شباك رحلة الخطوط التونسية العائدة لتونس يحمل رقم 713، علما بان الارقام متسلسلة بدون انقطاع او تكرار او قفزات ولك ان تتخيل حجم المطار.

عدت الى التراب الافريقي، ارض حضارة قرطاج العريقة، ومنها الى ارض الوطن؛ حاولت ان اعطي الموضوع نصيبه، اطلت اعلم ذلك، ولكن اتمنى ان لا اكون مملًا، حاولت الا اذكر التفوق التقني والمانيا النظيفة المستقرة القوية، فتعريف المعرف خطأ، وتكرار ذكر الشمس التي تشرق من الشرق هو امرٌ ممل، فقط احببت ان اضيف في خاتمة موضوعي ما اعجبني في اوروبا بشكل عام هو القدرة على التسامح ووضع الحلول للشعوب فهذه اوروبا التي كانت تغص بالحروب لقرون وقرون طويلة، قد فتحت حدودها للكل، وكم المهاجرين فيها يكاد يساوي عدد سكانها الاصليين، ما ابعد وطني عن هذا وكم اتمنى ان اراه او على الاقل ان نقوم بتنشأة جيل جديد يستطيع ان يدرك اهمية هذا ويحاول الوصول اليه.

انتهت حوصلتي لرحلتي والان جاء دوري لدحرجت كرة هذه المهمة لغيري، الاختيار صعب فالعديد من الشخصيات اتمنى ان اراها ترجع للكتابة من جديد في مدوناتها، اختار المهندس طارق سيالة، للكتابة عن:

  • أكتب عن هواياتك، يومياتك، أهدافك في الحياة، ماذا تحب وماذا تكره .. أكتب عن قطتك أو علاقتك بهاتفك المحمول .. أكتب دون تردد أو خجل.
في انتظار ما يتحفنا به طارق في مدونته

هناك تعليقان (2):

  1. ملخص ممتاز للرحلة أخي وسام .. أعجبني أسلوبك الكتابي وتسلسل الحديث وأرائك حول المكان وما عاينته من أحداث .. وأشكرك على أدائك الواجب وتشجيعك للغير :)

    ردحذف
    الردود
    1. شهادة نعتز بها خوي منير، ومشكور اكثر على المبادرة واهم شي يستمر تدحرج كرة الثلج

      حذف

بسم الله الرحمن الرحيم ( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )