لماذا الاصرار ؟

كل ما يراقب المشهد السياسي الليبي الحالي سواء الداخلي و المتمثل في مطلب الجماهير ، او ما تقوم به الدولة الليبية على صعيد السياسة الخارجية ، يلاحظ ان ما يغلب على هذا المشهد هو محاولة ملاحقة اعضاء النظام السابق  ، فهذه الحكومة تسعى جاهدة عن طريق القنوات الدبلوماسية و القانونية الدولية لاستجلاب بقايا اعضاء النظام وكلنا نشاهد الحرب القانونية من اجل احمد اقصد جمعة قذاف الدم  و المحاولات المستميته لعرضه على العدالة الليبية ووضعه على راس قائمة الاهداف الواجب تحقيقها ، على الاقل هذا ما يصوره الاعلام لنا عبر القنوات المختلفة او الصحف و كم الاشاعات التي ظهرت و ستظهر ، كذلك عن طريق متابعاتي لما يجري في الشارع و على صفحات الانترنت خصوصا الفيسبوك نلاحظ رغبة عارمة جدا بين افراد الشعب في الاطاحة باي شخص اشتغل مع النظام السابق.

و نلاحظ هذا ايضا على افراد المؤتمر الوطني العام فالكل يسعى و يضغط و يطالب اما باستجلاب الازلام الهاربين خارج البلاد او محاكمة المقبوض عليهم او العزل السياسي للمتلونين منهم ، المشكلة من وجهة نظري ليس في المطالبة بهذا لكن المشكلة بوضعه الهدف الاسمى و الهدف الاول للمرحلة الحالية ، و لا ادري لماذا يتم ذلك .

هل لاننا شعب تربى على الثورية فلا يزال الفكر المسيطر على عقلية نسبة محترمة من الشعب الليبي لا يزال يرى ان الوحده العربية ضرورة حتمية ، و ان زعيمة الارهاب العالمي امريكا و جماعة الصهيونية العالمية يسعون الى تدميرنا و مسحنا من الوجود و نهب خيراتنا و تدمير انجازاتنا ، و لا ادري ماهي الخيرات التي يرديونها و لا الانجازات التي نفخر بها ، لهذا نرى في كل شي انجاز و درة من الدرر و كل من يخالفنا هو تهديد لنا حتى لو كان هذا الشخص قد ترك البلاد و هرب الى اقاصي الارض و لا يرد منا شيئا .

ام لعدم قدرة و عجز فكري و عملي لتحقيق اي انجاز اخر فاقتصر طموح من في السلطة على استجلاب بعض الرموز و استغلال كره الناس لكل من عمل مع نظام معمر القذافي ، و لمعرفتهم ان مجرد عمله مع النظام اصبح يعد جريمة في حد ذاتها ، و لهذا لسان حالهم يقول فلنستغل هذه الفرصة فتحقيق نصر من ورق يسكت الشعب و يلهيهم و يعطيهم انطباع بان هذه الحكومة تسعى و تعمل ، قد يقول قائل مدافعا قد حرنا معكم اذا حققنا مطالب الشعب ظهر صارخٌ غاضب و اذا لم نحقق ظهر صوت اخر يصرخ غير راضٍ ، معكم كل حق لانكم ترون حكم البلاد نظرة الانسان العادي لبرنامج ما يطلبه المشاهدون راي الاغلبية هو الذي سيفوز و بهذا يرضى الجميع ، فحين ان حكم الدول يجب ان يتم باتخاذ قرارات لمصلحة الدولة و الصالح العام و ليس مطابقا لرأي الجموع .

فقد رأينا سابقا و خبرناها رأي الجموع ليس دائما صحيحا ، فيمكن ان يزوّر و من الممكن ان يضلل ، فتحت ظروف معينه وبادوات معينة و بشحن اعلامي شعبي جماهيري معين يمكن ان تجعل الجماهير توافق و توقع وثيقة انتحارها ، و هذا ما رايناه مرارا و تكرارا في عهد معمر القذافي و ايضا مع من سبقه من انظمة حكم دكتاتورية مثل هتلر ، موسيليني ، ستالين و غيرهم الكثير ، لهذا وجب على الحاكم ان يعرف ما يختار لا يعني هذا ان يخالف الراي الشعبي لكن بكل سهولة له في مصلحة الدولة و مصلحة الشعب مقياس السلامة و الشعب هنا ليس الشعب الحالي فقط بل حتى الشعب المستقبلي لهذه الدولة .

للتغيير طريقتان طريقة سلبية و طريقة ايجابية و لا اقصد هنا طريقة تنفع و اخرى تضر او طريقة سيئة و الاخرى جيدة ، بل اقصد ان للتغيير طريقتان طريقة تزيل الامر السيئ و اسميتها السلبية فهي تزيل و هي ايضا تغيير و طريقة اخرى ايجابية و هي طريقة بناء الشيء الجيد و هي كذلك تغيير ،  و كل دولة و الطريقة التي تحتاجها فبعض الدول تعاني من مشاكل الفساد فقط و لكنها دولة مبنية ذات مؤسسات عريقة ولكن راس الدولة فاسد او اخطأ و بهذا يكتفي الشعب بطريقة التغيير السلبي ، و بعض الدول تعاني من عدم وجود اي شي على ارضها ولكن لها حكومة واعية جيدة  ولهذا فهي تستخدم التغيير الايجابي فتبني و تؤسس و تنهض ، اما في حالتنا الليبية فكنا نعاني من الامرَين معا نظام فاسد مفسد ، و انعدام مقومات الدولة من مؤسسات وخلافة فلهذا وجب استخدام الطريقتين في التغيير .

و هذا ما تم فعليا فتم ازالة راس الفساد وبه انهار النظام السابق و لم يعد للفساد كيان و منظومة بل اصبح نقاط متفرقة فردية ، ومن هنا وجب مقاومة ظاهرة الفساد في حد ذاتها لا مقاومة الافراد الفاسدين ، و لنرجع قليلا و نلاحظ ما حدث في ليبيا خلال السنتين الماضيتين ، قبضنا على كل من سيف الاسلام ابن القذافي و رئيس وزراءه البغدادي المحمودي و يده الفاعله عبد الله السنوسي ورئيس مخابراته و وزير الخارجية وغيرهم الكثيرين ، ماذا كسبنا منهم فعليا و انا اقصد انا كمواطن ليبي ماذا كسبت باحتجزاهم ماذا تغير في حياتي فعليا و اتمنى الا اسمع احدهم يستنكر يصيح قائلا أهذه دعوة لاعطائهم حريتهم ؟!! ، بالطريقة المعتادة في الحكم  اذا لم تكن يمينا فانت يسارا  و اذا لم تكن معي فانت ضدي ، لا ليست دعوة لكسر العرف و المنطق و الدين و العدل بل دعوة لعدم وضع هذا الموضوع في الواجهة و على راس الاولويات ، فكما قال نابليون بونابرت "الجيوش تمشي على بطونها" كذك الشعوب تمشي على بطونها وراء لقمة عيشها و راء غرائزها و احتياجتها .

قانون العزل السياسي و استجلاب المجرمين و المتهمين من خارج الحدود خطوة مطلوبة لكنها ليست هدف في حد ذاتها ، فهي لا تغير من واقعنا كمواطن ليبي الا اقل القليل فتظل مشاكلنا مستمرة و لم نجد لها حل و هي ما اطلب المؤتمر الوطني و الحكومة التنفيذية ان تسارع بحلها ، اولها و اهمها ما تم اختيار المؤتمر الوطني من اجله الدستور وهو القانون الاساسي الذي تبنى حوله الدولة بدونه سنظل في مرحلة اللادولة و اللا كيان   ، ايضا موضوع الامن و تشكيل قوة امنية و فرض الامن و حل المليشيات و تشكيل القضاء ، مشاكل البطالة و مستوى المعيشة للمواطن الليبي ، العمالة الاجنبية و تكدسها في البلاد ، مشكلة تكدس السكان و مشكلة مساكن ، مشكلة المشاريع المتوقفة و البنية التحتية المنهارة ، مشكلة استيرادنا لكل شيء و على قول جمال عبد الناصر من الابرة الى الصاروخ وغيرها الكثير و الكثير من المشاكل ، اعرف ان الكثير منها تحتاج الى سنوات من العمل و لكن رحلة الالف الميل تبدا بخطوة ، و لم ارى هذه الخطوة في الكثير من الاشياء ، و على راي احد الشباب يتسائل عن دور وزير المواصلات في الحكومة الحالية و الحكومة السابقة اذا لم يتم حل مشكلة مواقف السيارات و محطات الباصات "الايفكو" .

الغريب و العجيب هناك اصرار على استجلاب المجرمين الغير مدانين و قانونا يجب تسميتهم متهمين وهذا من نص عليه الاعلان الدستوري المؤقت ، و رغم ان البلاد تعج بالثوار و الاجهزة الامنية فلله الحمد و المنه لم يقف مصنع تفريخ المجرمين في ليبيا و العملية تتوسع ، كنا في السباق نقول انهم المجرمين الذين تم اطلاق سراحهم من قبل النظام المنهار و مرت سنتان و لم نسمع عن حملة للقبض عليهم ، و الادهى من ذلك نسمع كل يوم تقريبا عن مقتل مجموعة من الاشخاص امّا في اشتباك او في مداهمة او في حالة سكر ، و لا نسمع عن احد تم اعتقالة و المصيبة نسمع عن ارتال تتحرك تحتل مبنى وزارة او تسطو على مركز شرطة كما حدث في ابوسليم الاسبوع الماضي او تقتحم مستشفى و تعتقل او تقتل مريض و تقيد في الاغلب ضد مجهول ، عامان مرّا و لم نسمع عن عودة اموالنا في الخارج و لم نسمع عن انتهاء محاكمة زلم من ازلام النظام السابق ، فدعونا منهم و لنتحرك بما لدينا الان و لا نجعل الرأي العام مغيب في امال لا تغنيه و لا تسمنه الكل مترقب لعودة الازلام و كأن لديهم موقع مغارة علي بابا التي ستجعل المواطن منا مخْزَن ذهب متحرك .

و الغريب عندما ترى ان هذا التفكير هو السائد على النخبة الحاكمة صفوة الصفوة ، قشدة المجتمع الليبي اعضاء المؤتمر الوطني الذين يناقشون الحكومة عن اشياء لا ادري ما اقول عنها الا انها الف باء السياسة ، احدهم يتهم وزير الداخلية بانه زلم من الازلام و الآخر يلوم و يطالب رئيس الوزراء باعتذار رسمي لانه قد وصفية زوجة القذافي بالسيدة وموسى كوسا بالسيد ، و بعين الخيال ارى المتنبي يتقلب في قبره يريد ان يغير بيت شعره الى  :
اغاية الحُكم عزل ساستكم ..... يا امة ضحكت من جهلها الامم

و الخلاصة وما ارغب في قوله ان من ضمن ما نعاني منه في هذه المرحلة هو ازمة اولويات ، يجب ان تحدد اولوياتنا في كلمات بسيطة و واضحة من قبل الجهات التشريعية ، و تقوم الجهات التنفيذية بتحليل الهدف الاسمى و تجزئته الى ما يسمى بالمهمات الميكروسكوبية وعلى اساسها توضع الخطط المرحلية ويبدا التنفيذ ، و بدونها سنظل في عصر الجماهيرية حيث الكل يحكم و حيث لا خطة واضحة و كل ما هنالك حلول من نوع الفزعة يا رجال .

تم نشره على موقع صحيفة الكاف بتاريخ 15 ابريل 2013 .

اخترقنا... وبعد ؟

اريد ان اناقش في مقالتي هذه موضوع الاختراق و الهجمة الالكترونية التي شنها بعض محترفي الاختراق العرب على بعض المواقع الاسرائلية ذات الاسماء الرنانه و المستويات الرفيعه ، لا انفي الشعور الجميل و بعض الرضى عن عملية الاختراق ، و كأني ابحث عن انتصار في اي مجال او في اي مكان ، انتصار افتخر به و يرفع بعضا من معنوياتي الى مكان اعلى من الحالي و يرضي غروري بان اسم بلادي او جنسيتي ذُكر و لو لبرهة من الزمن من جديد على مستوى العالم .
لكن لو ناقشنا الموضوع بقليل من العقلانية ، خصوصا حول الطريقة التي تناولت بها الصحافة و الاعلام  المرئي و المسموع و المكتوب الاحترافي و الهاوي ، و كذلك كيف تعامل الشارع العام مع هذا الخبر ، شخصيا لا ادري مثل اغلب الناس حجم الاختراق و لاي عمق قد حدث وهل كانت له مكاسب استراتيجية معلوماتية ام لا ، و لكن ما سمعته و ما رايته على ارض الواقع من بعض الصور و زيارة بعض المواقع التي انتشر خبر اختراقها على الانترنت ، يعطيني انطباع بان المستهدف كان مجرد الواجهة فقط مواقع عادية تعرض خدمات عامة مثل خدمات البحث عن معلومة او خدمات البريد الالكتروني او بعض الاحصائيات و المعلومات ، و قد يكون بعضها فعلا ذو اهمية تجارية فبه تباع و تشترى اسهم او بضاعة او موقع شركة تامينات او اي شيء من هذا القبيل .

وكما قلت آنفا فلنفكر ببعض العقلانية و لنحسب مكاسبنا من هذه العملية :
  • خسائر مادية للكيان الصهيوني نتيجة توقف خدماته خصوصا التجارية منها .
  • كسب معنوي للمواطن العربي لشعوره بالنصر.
  • عودة الجماعية و لو في الصورة التي راينها بين مواطني الدول العربي .

لننقاش الان حجم الضرر الذي تسببت به هذه الهجمات :
  • حجم الخسائر المادية ليست بتلك الكبيرة مقارنة بالدخل السنوي لاسرائيل الذي يصل حسب احصائية سنة 2011 من البنك الدولي قرابة 243 مليار دولار امريكي سنويا (المصدر) .
  • خسائر البيانات و لا اعتقد انها ايضا بتلك الخاسرة الكبيرة فكل ما تم خسارته هو كم من المعلومات المعروضة علنا او المسموح بالوصول اليها عبر شبكة الانترنت ، و اي توقف لاي خدمة يمكن اعادته بكل بساطة خلال فترة وجيزة عن طريق اي نسخه احتياطية بعد اضافة التعديلات و الرقع الامنية اللازمة و المطلوبة .

بالاضافة طبعا الى كم رهيب من التصريحات ملأت الانترنت و التي ارى انها مجرد مبالغات و تصريحات موسمية يخرجونها من الثلاجة كلما دعت الحاجة لاستخدامها ، منها تدمير اسرائيل ، انهيار الاقتصاد الاسرائيلي ، هزيمة اسرائيل الكترونيا ، انهيار الخط الدفاعي الاسرائيلي امام هجمات العرب و المسلمين ، و غيرها الكثير التي لا ارى ان هناك جدوى من نقاشها اصلا.

لكل حرب او هجوم اهداف و استراتجيات اذا تحقق يعتبر الهجوم ناجح و اذا فشلت فيعتبر هجوم فاشل ، اذا كان الغرض من الهجوم تدمير اسرائيل الكترونيا فهذا امر لم يتحقق و بعيد المنال ، اذا كان الغرض تحقيق ضربه محدوده للاقتصاد فنعم تم النجاح في ذلك ، اذا كان الغرض رفع المعنويات و اثبات انني موجود فنعم نجحنا ولكن كمن يتنشق المخدرات فالنشوة لحظية ، حقق المهاجمين نشوتهم و انتصارهم و اشعروا العرب من جديد بانهم امة واحدة قوية و احيوا بعض الامل من جديد ، لكن ما يلبث كل هذا ان يتلاشى تحت غبار التقادم و مشاكل الحياة اليومية في كل بلد التي لم يتم حلها و لن يتم حلها في القريب ، و ايضا هناك مشكلة اخرى تم الهجوم من بعض الافراد من شتى الدول العربية و الاسلامية على مواقع حكومية اسرائيلية و تحقق نصر لحظي لنا و الان نحن في انتظار رد الفعل ، وكما لدينا من يعرف كيف يخترق كذلك لديهم من يعرف كيف يخترق ، و السؤال هل اجهزة دولتنا ومواقعنا الحكومية الالكتورنية و منظومتنا الموصولة بشبكة الانترنت مستعدة للتصدي لمثل هذا هجوم ؟ ماذا لو توقفت كل خدمت شبكة ليبيانا و المدار و ال تي تي ، ماهو حجم الخسائر في الدولة الليبية ، ماذا لو تم اختراق مراكز معلومات مصارفنا ؟ هل نحن مستعدين لمثل هذه الصدمة ؟ و من هو الخاسر الاكبر في هذه الحالة ؟

لن اقول ان كل ما تم خطأ او انه صواب بل اناقش في منطق حدَثْ معين ، كفانا من سياسة الهدم وسياسة اما معي او ضدي ، فمجرد الهجوم على مواقع اسرائيلية كالتي تم ذكرها هو مسبّة في المخترقين ، فدولنا لا تملك هذا الكم من المواقع الحكومية ذات التاثير وذات الخدمات المتنوعة التي اذا سقطت ستسبب ازمة للدولة كما يدعي اعلامنا ، وساتكلم هنا عن ليبيا فهي دولتي و اعرف ضعف امكانيتها التقنية نتيجة طبيعة وظيفتي ، اذا كان الغرض من الاختراق اثبات الذات العلمية و المعرفية فيا ريت من المخترقين عشّاق علم الامن و الحماية التقنية ان يتعاونوا فيما بينهم في تأسيس شركة محلية لامن المعلومات تخترع مضاد فيروسات ليبي و تنتج الاصدارت المتعاقبة للبرنامج بتحديثاته و تسوق لبرامجها محليا و لما لا حتى عالميا ، فتوَفّر برامج امنية يُمّكِن الاعتماد عليها بلا ثغرات بلا ابواب خلفية يعتبر جزء من الامن المعلوماتي للدولة ، لما لا يتم انتاج اجهزة لتصفية محتوى الانترنت او تحسين كفاءة الشبكة كمنتجات شركة WatchGuard او FortiNet و غيرهم الكثير ، اعلم ان المسافة بيننا وبينهم كبيرة لكن كما قلت امن المعلومات هدف قومي استراتيجي و اعتمادك على منتج جاهز اجنبي في حماية معلوماتك كمن يعتمد على جيش من المرتزقة لتأمين حدوده ولاؤهم لمن يدفع اكثر و لا فرق كبير بين اضعاف الخصم و تهديمه وبين تامين جانبك و دفاعاتك ضد مثل هذه الهجمات و البداية دائما متعبة و اول الغيث قطرة .

تم نشرها في موقع صحيفة الكاف بتاريخ 9 ابريل 2013

فضفضة

حكم معمر القذافي البلاد لمدة تزيد عن الاربعين سنة عبث و افسد و صال و جال كما شاء و كما اراد و لم يكتفي فقط بافساد المؤسسات و اهدار المال العام بل اكثر ما افسد تاثيرا هو افساده للشعب و منظومة الاخلاق في حد ذاتها و تغييبها و اختفت تحت مسميات عديدة و اعذار مثل الفاقة و الحاجة و الشعور بالظلم و الدليل على هذا ما نشاهده في حياتنا اليومية من قبول الشعب للفساد و تعايشهم معه بل و وصلنا الى مرحلة خوف البعض من انتهاء هذه المنظومة فباختفائها تختفي مصالحهم و لا يبقى لهم وجود خارجها فلا يستطيعون العيش بدون مزرعة الفساد و طقوسها.

كان اندلاع الثورة امر لابد منه و لا شك في ذلك ، و كل من وقف مؤيد لها و لا يزال فهو على حق ، و اعتقد ان كل من ينتقد الاوضاع الحالية بكل ما فيها ايضا على حق و لديه الكثير من الحجج و المنطق في ذلك ، فلا يمكن باي حال من الاحوال الطعن في منطق الناقدين بعد رؤية الواقع فهو خليط من ظلم حديث و فوضى عارمة بالاضافة الى تراكمات قديمة موروثة من الانظمة السابقة.

السؤال المطروح الآن كم ستحتاج الدولة حتى تستقر و ننتهي من مرحلة الثورة و ننتقل الى مرحلة البناء؟
الحمد لله ان طريقة الثورة الليبية كانت ثورة مسلحة قضت على كل اجهزة الدولة السابقة من امن داخلي و كتائب خاصة و لجان ثورية وغيرها ، لكن اثناء قضائها على هذه الاجهزة قضت او على الاقل عطلت بعض الاجهزة المفيدة ، و لم يتبقى من النظام السابق الا بعض الهاربين الذين لم يعودوا في دائرة السلطة و لم تعد لهم اي نفوذ الا بالتآمر و التواطؤ و بعض المتلونين نتاج زواج السياسة بالقوى الاقتصادية الذين لم يمارسوا سلطة سياسية فعليا في النظام السابق و اقصد هنا اصحاب النفوذ الاجتماعي اصحاب رؤوس الاموال ، استغرق القضاء على القذافي و نظامه عسكريا ما يقارب الثمانية الشهور ، و ما نعيشه الان يدل ان القضاء على المتبقين يستغرق و قت اطول بكثير و جهد اكثر .

واحدى اكبر المشاكل التي ستواجه الحكومة هو القضاء عليه ليس فقط لانه هدف استراتيجي سنكسب من ورائه شيء لكن لارضاء الجماهير ، فالقضاء على الكل اصبح مطلب جماهيري و طموح كل مواطن ليبي ، و اصبح نقاء العمل و سلامة الدولة و الحكومة و مصداقيتها مربوط بخلوها من اي شائبة او شبهة ان احد اعضائها قد عمل في نظام حكم القذافي ، و البعض يزايد على هذا ، فاكثر من مرة ركبت في احدى "التاكسيات" ودار الحديث مع السائق حول اوضاع البلد و يبدأ النقاش ان ابن خالة عمة عضو المؤتمر الوطني العلاني قد كان يشتغل في الامن الداخلي ، و هذا دليل ساحق ماحق على فساد المؤتمر !!!

وهذا اكبر تحدي يجب ان يعيه اصحاب المناصب سواء في الحكومة التنفيذية او الحكومة التشريعية ان نتيجة التراكمات السابقة اكثر ما فُقد هو ثقة الشعب في اصحاب السلطة و بدون هذه الثقة لن يكون العمل سلسا نهائيا ، و المصيبة اننا نرى الصراعات السياسية الداخلية بين الاحزاب و التيارات الفكرية المختلفة تؤجج و تعمق عدم الثقة ، فمن اساسيات الصراع الفكري الحالي الدائر في ليبيا ان تطعن في عدوك بدلا من التسويق لافكارك وتناضل من اجل اثبات صحة نظريتك ، فهذه الطريقة هي الاسهل و ليست الافضل فانت تتبع طريقة لسان حالها يقول انكم يجب ان تختاروني ليس لانني الاختيار الصحيح بل اختاروني لان الاخرين على خطأ ، و المنطق من ورائها هو اذا اثبت ان الكل خطأ فلا يبقى الا انا الصحيح ، و هذا منطق ضحل و سطحي جدا و يمكن ضحضه بكامل السهولة ، و هذا ما نراه في النقاشات السياسية الفكرية الحالية في ليبيا لا احد ينتصر الكل مهزوم لان اسلوب النقاش و الخطاب مبني على الضحالة و الغباء و لا ادري السبب في ذلك هل لان المخاطِبين اغبياء ام ان المخاطَبين هم الاغبياء ، ام كلاهما ، ام ان الموضوع لا يتعدى تعصب لمنطق معين ومذهب فكري معين بدون اي فهم فلا تبقى هكذا الا الحوارات و الدفاعات الغبية السطحية .

اما على الصعيد التنفيذي فالطريقة المتبعه هي عدم احتمال المسؤولية و رمي حمل جميع الاخطاء على الطرف الاخر و ان لم يوجد طرف ثاني فاصطنع طرف ثالث و لك في نظرية المؤامرة و شعب غير مثقف طوق النجاة ، و هذه الطريقة لا تبني اي ثقة بين الحكومة او السلطة و الشعب .

التعامل مع الشعب باسلوب انه لا يفهم و لا يجب شرح الحقائق له ، او يجب شرح الحقائق باسلوب يضلل الشعب ولو كانت بهدف الحفاظ على الامن العام لا يزيد الامر الا كارثية فقلة المعلومات وتضاربها هي البيئة الملائمة لتكاثر الشائعات و كلنا نعلم ان السرية في ليبيا شبه معدومة و الكل يدعي الاطلاع على كل شي و تسريب الوثائق على صفحات الانترنت اكثر عدد مرات قتل خميس القذافي ، و مع الشائعات تبدأ ردود الفعل في الشارع و التخبط و الاتهامات ، و يمكن قياس استقرار الاوضاع بمعادلة بسيطة بقياس عدد الشائعات ونوعها ، فكلما زاد عدد الشائعات و سخافة نوعيتها كلما دل ذلك على نقص المعلومات في الشارع و الخوف و عدم الثقة التي تمر بها البلاد.

لماذا لا يحدث حوار بدون  طعونات و تخوين و ما الى ذلك ، لماذا لا تلتقي الاطراف السياسية  في منطقة محايدة من اجل الصالح العام ، لماذا نقفل كل الطرق ؟ لماذا نحرق جسور التواصل التي لم يبنيها اصلا الساسة ؟  ، يوجح ضوء في نهاية الطريق يوجح امل في نهاية الممر لكن اصحاب القرار مصرين على الادعاء بانه نار اللهيب ، هذه الثورة محتاجة الى العقل ليقودها الى الاتزان الى التواضع ، كفانا من خصخصة الثورة و محاولة اكتساب الشرعية من دماء الشهداء ، وكفانا من الصراع الفارغ انا من حرركم انا من قام بكذا ، كفانا من منطق "من انتم ؟ اين كان ابائكم و اجدادكم؟" .

و يا اخوتي كونوا اصحاب رأي ، و كفانا تجميد للعضو الهلامي داخل جمامجنا المسمى مخ  كفانا سلبية و كفانا حياة التابعين ، اختار و لا تدعهم يختاروا لك ، و كم يعجبني هذا المقطع من النشيد المغربي وبه اختم :

اخوتي هيا لالعلا سعيا .... نشهد الدنيا انّا هنا نحيا

تم نشرها بتاريخ 7 ابريل 2013 على موقع الكاف