نيران صديقة

يعلم الجميع ان الفترة الحالية في ليبيا هي فترة حرب ، واصف اليكم تبعات هذا الموقف الذي نعيشه لمن لم يعشه ، بطالة ونقص للموارد الغذائية و الوقود واحتمال انقطاع الكهرباء وانقطاع الماء يلوح في الافق في اي لحظة .

انقطاع لمصدر المعلومات الحر الذي تقيّم به الوضع دون نقل لوجهة نظر جهة ما و المتمثل في الانترنت ، توقف معالم الحياة الطبيعية التي كنا نحياها قبل اندلاع الحرب ، و اصبحت الحياة اشبه باقامة جبرية في البيت ، او على الاقل هذه كانت حياتي فلا رغبة لي في الشد العصبي الذي سيسببه لي الشارع ، ايضا التوتر العام فانت مشتبه فيك و متهم الى ان يثبت العكس اذا حاول احد تلطفا و ترحما بك اثبات العكس ، و السلاح في كل مكان و السيارات الاتية من الجبهة رأسا تملا شارعنا المليئة ببصمات الرصاص او مغطاة بالكامل بالطين للتمويه ، مع خليط من اطلاق النار من بنادق و مسدسات موالين الطاغية الى قصف صواريخ و قنابل طائرات الناتو ، اضافة كوكتيل زبانية القذافي من رجال و نساء الذين ملؤوا البلاد واذلوا العباد.

فلكم ان تتخيلوا بعد اربعة شهور من وضع كهذا كيف تصبح حالتك النفسية و المعنوية ، خصوصا وانت معارض لنظام حكم قد طغى و تجبر في البلاد ، فخبر يرفع المعنويات الى عنان السماء و خبر اخر يهبط بمعنوياتك الى سابع ارض.

احدى تلك الايام التي كانت فيها المعنويات اقرب الى الحضيض ، زارني احد الاصدقاء الاعزاء و كالعادة "شرقنا و غربنا" في الحديث ومن موضوع الى موضوع تقافزنا كعصافير فوق حبل الغسيل ، وطبعا سيكون عماد حديثنا السياسة و اوضاع البلاد العربية في خضم ثورات شعوبها ، فشكر و مدح ملك السعودية بانه احسن عملا بان اشترى هدوء شعبه و استمرار ملكه بزيادة رواتب المواطنين بشكل ملموس ، و اعتقد ان هذا مطلب غالبية الناس او على الاقل فئة كبيرة منهم في وطننا العربي ، فقلة من هم الطامعين في الحكم ، وايضا المطالبة بالحرية و العدالة يمكن اخراسها بتحسين الاوضاع الاقتصادية فلا احد يرغب في خوض معركة تكون عواقبها سلبية على قطاعات الدولة الاقتصادية ، او كما حدث في ليبيا و سوريا تكون عواقبها وخيمه على حياة الكثير من البشر .

واخذنا الحماس وبدات غدة الخيال تفرز انزيمتها وتكون عالم وهمي يصور لنا القذافي يقول بدلا عن "من انتم ؟" و نعوت تشعرك بانه كان يعيش في اسطبل او حضيرة دواجن "جرذان و مقملين" وتهديد بتطهير ليبيا "بيت بيت ، دار دار ، زنقة زنقة ، شبر شبر ، فرد فرد" ، يستبدل قوله بانه قد فهم مطالب الشعب وانه سيقوم برفع معاش المواطنين الليبين الى 4000 دينار ليبي اي ما يزيد قليلا عن 3000 دولار ، و عشنا في هذا الوهم اللذيذ وحسبناها فيمكن بهذا المبلغ الذي يقبضه الليبين في حوالي 6 شهور اذا كانو من سعداء الحظ ان يقضوا اجازة نهاية الاسبوع في احدى العواصم الاوروبية ، و ان يشتروا سيارة جديده كل شهرين ، و ان يتحصلوا على بيت جديد في نهاية كل عام ، بهذا المبلغ المالي سيتفرغ الموظف او الباحث للابداع في عمله لا في البحث عن عمل جديد او اضافي يحسن به وضعه او يبقى يعمل طول حياته و هو متذمر و "خلوقه في حكه" بحجة اعمل على قدر المرتب .

استيقظنا من رحلتنا في احلامنا على صوت اول اطلاقه اعادتنا من سماء الطموح الى ارض الواقع بصدمة محترمة اضاعة اغلب المعنويات المتبقية ، رحل بعدها صديقي على الفور فقد جن الليل و لا يرغب احد بان يقول انه قد سقط جريحة من رصاصة طائشة او يتهم بانه من "شذاذ الافاق" او من المغرر بهم الذين يتابعون قنوات الفتنة "كالحقيرة (الجزيرة)" او "العبرية (العربية)" .

وبعد كل هذه الطاقة المعنوية السلبية يصعب ان تنام الليل وهذا ما حدث بدات هموم الدنيا تصب على راسي من الخمير الحمر الى مشكلة صنبور الماء في الحمام الذي يحتاج الى التصليح ، فما كان مني الا ان اختار احدى الكتب واجندل بعض صفحاتها لعلها تشغل تفكيري وتاخذني الى عالم بعيد اسرح و امرح فيه حتى أخِرّ صريع النوم ، فقادني حظي الى كتاب "نيران صديقة" بقلم الكاتب المصري الشهير علاء الاسواني صاحب رواية "عمارة يعقوبيان" التي نالت نصيبها من الشهرة .

وقضى هذا الكتاب الذي ماهو الا مجموعة قصص مجمعة بين جلدتين على ما تبقى من معنويات قد احتفظت بها في خزنتي النفسية لعلها تبقيني حيا ، فهذه قصة الافتتاحية عن رب عائلة طيب مطحون بين فردتي الرحى "مطالب الاسرة وصعوبة المعيشة" موهوب ولكن غير مشهور فتاخذه صعوبة العيش الى مستنقع المخدرات و ليال السمر مع الاصدقاء ، له ابن وحيد يرغب عبره ان يحقق كل طموح لم يصل اليه ولكنه يجره معه في جلسات السمر و شرب الحشيش وتستمر الايام ويأخذ الله امانته في موقف انساني مؤثر وتبقى الام و ولدها لوحدهما ، ولم يمهلهما القدر فرصة للاتقاط الانفاس فهذه الام تصاب بالسرطان ويضاف الى العائلة الجدة وخادمة ومرض مقيم ، و يكبر الابن بلا رقيب فتصاب الاخلاق بالتفسخ ثم التهري ، في هذا الجو النفسي المريض لو لم يصاب الانسان بالعلل النفسية فلن خوف عليه ابدا ، فيجره خياله المريض و رغبته في الخروج من واقع مزرٍ و رغبات بلا قيود الى موقف لا يحسد عليه وهو الجنون .

القصة التي تليها عن شخص ألمَعِي عبقري طبيب يسعى لان يصبح جراح ولكن تركيبة اصحاب سلطة اتخاذ القرار في تحويله من خريج كلية الطب الى طبيب ، لا يسعون الى الصالح العام بل الى شيء لا يمكن فهمه فلا هو مجد شخصي و لا هي نرجسية و لا هي سادية بل خليط من كل هذا خلاصة القول القصة حول النجاح تجسد في صورة انسان ولكن في بلاد مثل بلادنا لا يكفي هذا بل يجب ان تتبع قاعدة "كان عندك عند الكلب حاجة قوله يا سيدي" و ان العلم في حد ذاته لا يسمن و لا يغني من جوع ، بل طاعة من هو اقوى منك هي سر النجاح .

ثم تتوالى القصة فتأتينا قصة عن رجل قد "فرمته" وجندلته الحياة حتى اصبح يخاف ان يطالب بحقه و يوم طلبه خاف ان يتم رفضه و يوم منح حقه خاف ان يؤخذ منه ؛ ولابد في جو عالمنا العربي الملبد بالمشاكل السياسية ان تكون في تجمع القصص قصة ذات مغزى سياسي فهذه قصة "سيدي المسؤول عن تكييف القاعة" تذكرنا بمذبحة جنين و حتى تعرف علاقة التكييف بالمذبحة عليك قراءة القصة.

يضم الكتاب بين ضلفتيه مجموعات منوعه من القصص فمن صناعة الدكتاتور في ابسط صورها ، الى الظلم الاجتماعي و العنف الاسري ، و الفروق الاجتماعية المدمرة ، الى رغبات بسيطة لطفل معاق ، وغيرها الكثير .

لكن بعد هذه الجرعة الشنيعة من النكد استغرب كيف لم اعزف الكمان بسكين على اوردة يدي ، رأيت انه يوم غريب يستحق ان يسجل وان اكتب عليه حتراما لكَم الاحباط الموجود فيه .

ملاحظة : قمت بكتابة هذه المقالة بتاريخ 14 / 6 / 2011 نتيجة ظروف قطع الانترنت على مدينتي طرابلس اقوم بنشرها الان.

هناك تعليقان (2):

  1. اسال الله ان يعيد الامن و الامان الى ليبيا و ان يحقن الدماء و يحفظ الاعراض

    ردحذف
  2. اخي ابو علي بن علي
    باذن الله عن قريب هانت خلاص :)

    ردحذف

بسم الله الرحمن الرحيم ( مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )